فصل: تفسير الآية رقم (71)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التحرير والتنوير المسمى بـ «تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد»***


تفسير الآية رقم ‏[‏53‏]‏

‏{‏وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا ‏(‏53‏)‏‏}‏

عطف على جملة ‏{‏وجعلنا بينهم موبقاً‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 52‏]‏، أي جعلنا الموبق ورآه المجرمون، فذكر المجرمين إظهار في مقام الإضمار للدلالة على ما يفيده المجرمون من تلبسهم بما استحقوا به عذاب النار‏.‏ وكذلك عُبر ب ‏(‏النار‏)‏ في مقام الإضمار للموبق للدلالة على أن المَوبق هو النار فهو شبيه بعطف البيان‏.‏

والظن مستعمل هنا في معنى التحقق وهو من استعمالاته‏.‏ ولعل اختياره هنا ضرب من التهكم بهم؛ بأنهم رجحوا أن تلك النار أعدت لأجلهم في حين أنهم موقنون بذلك‏.‏

والمواقعة‏:‏ مفاعلة من الوقوع، وهو الحصول لقصد المبالغة، أي واقعون فيها وقوع الشيء الحاصل في موقع يتطلبه فكأنه يقع هو فيه‏.‏

والمصرف‏:‏ مكان الصرف، أي التخلص والمجاوزة‏.‏ وفي الكلام إيجاز، تقديره‏:‏ وحاولوا الانقلاب أو الانصراف فلم يجدوا عنها مصرفاً، أي مخلصاً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏54‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآَنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا ‏(‏54‏)‏‏}‏

عطف على الجمل السابقة التي ضربت فيها أمثال من قوله‏:‏ ‏{‏واضرب لهم مثلاً رجلين‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 32‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏واضرب لهم مثل الحياة الدنيا‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 45‏]‏‏.‏ ولما كان في ذلك لهم مقنع وما لهم منه مدفع عاد إلى التنويه بهدي القرآن عودا ناظراً إلى قوله‏:‏ ‏{‏واتل ما أوحي إليك من كتاب ربك‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 27‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 29‏]‏؛ فأشار لهم أن هذه الأمثال التي قرعت أسماعهم هدي من جملة هدي القرآن الذي تبرمُوا منه‏.‏ وتقدم الكلام على نظير هذه الآية عند قوله‏:‏ ‏{‏ولقد صرفا للناس في هذا القرآن من كل مثل فأبى أكثر الناس إلا كفوراً‏}‏ في سورة الإسراء ‏(‏89‏)‏؛ سوى أنه يتجه هنا أن يُسأل لم قُدم في هذه الآية أحد متعلِقي فعل التصريف على الآخر إذ قدم هنا قوله‏:‏ في هذا القرآن‏}‏ على قوله‏:‏ ‏{‏للناس‏}‏ عكس آية سورة الإسراء‏.‏ وهو ما أشرنا إليه عند الآية السابقة من أن ذكر القرآن أهم من ذكر الناس بالأصالة، ولا مقتضي للعدول عنه هنا بل الأمر بالعكس لأن الكلام جار في التنويه بشأن القرآن وأنه ينزل بالحق لا بهوى الأنفس‏.‏

والناس‏:‏ اسم عام لكل من يبلغه القرآن في سائر العصور المستقبلة، والمقصود على الخصوص المشركون، كما دل عليه جملةُ ‏{‏وكان الإنسان أكثر شيء جدلاً‏}‏، فوزانه وزان قوله‏:‏ ‏{‏ولقد صرفنا للناس في هذا القرآن من كل مثل فأبى أكثر الناس إلا كفورا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 89‏]‏، وسيجيء قوله‏:‏ ‏{‏ويجادل الذين كفروا بالباطل ليدحضوا به الحق‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 56‏]‏‏.‏ وهذا يشبه العام الوارد على سبب خاص وقرائن خاصة‏.‏

وجملة وكان الإنسان أكثر شيء جدلاً‏}‏ تذييل، وهو مؤذن بكلام محذوف على وجه الإيجاز، والتقدير‏:‏ فجَادلوا فيه وكان الإنسان أكثر جدلاً، فإن الإنسان اسم لنوع بني آدم، وحرف ‏(‏ال‏)‏ فيه لتعريف الحقيقة فهو أوسع عموماً من لفظ الناس‏.‏ والمعنى‏:‏ أنهم جادلوا‏.‏ والجدال‏:‏ خلق، منه ذميم يصد عنه تأديب الإسلام ويبقى في خلق المشركين، ومنه محمود كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلما ذهب عن إبراهيم الروع وجاءته البشرى يجادلنا في قوم لوط إن إبراهيم لحليم أواه منيب‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 74 75‏]‏، فأشار بالثناء على إبراهيم إلى أن جداله محمود‏.‏ وليس المراد بالإنسان الإنسان الكافر كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يقول الإنسان أإذا ما مت لسوف أخرج حياً‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 66‏]‏ ولا المراد بالجدل الجدل بالباطل، لأن هذا سيجيء في قوله تعالى‏:‏ ويجادل الذين كفروا بالباطل‏}‏ الآية، فقوله هنا‏:‏ ‏{‏وكان الإنسان أكثر شيء جدلاً‏}‏ تمهيد لقوله بعده ‏{‏ويجادل الذين كفروا بالباطل‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 56‏]‏‏.‏

و ‏(‏شيء‏)‏ اسم مفرد متوغل في العموم‏.‏ ولذلك صحت إضافة اسم التفضيل إليه، أي أكثر الأشياء‏.‏ واسم التفضيل هنا مسلوب المفاضلة مثل قوله‏:‏ ‏{‏رب السجن أحب إليَّ مما يدعونني إليه‏}‏

‏[‏يوسف‏:‏ 33‏]‏، وإنما أتي بصيغته لقصد المبالغة في شدة جدل الإنسان وجنوحه إلى المماراة والنزاع حتى فيما تَرْك الجدال في شأنه أحسن، بحيث إن شدة الوصف فيه تشبه تفوقه في الوصف على كل من يعرض أنه موصوف به‏.‏

وإنما ألجئنا إلى هذا التأويل في اسم التفضيل لظهور أن غير الإنسان من أنواع ما على الأرض لا يتصور منه الجَدل‏.‏ فالجدل خاص بالإنسان لأنه من شُعب النطق الذي هو فَصْل حقيقة الإنسانية، أما الملائكة فجدلهم محمود مثل قولهم‏:‏ أتجعل فيها من يفسد فيها إلى قوله‏:‏ ‏{‏ونقدس لك‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 30‏]‏‏.‏ وأما الشياطين فهم أكثر جدلاً من الإنسان، ولكن لما نبا المقام عن إرادتهم كانوا غير مرادين بالتفضيل عليهم في الجدل‏.‏

وجدلاً‏}‏ تمييز لنسبة الأكثرية إلى الإنسان‏.‏ والمعنى‏:‏ وكان الإنسان كثيراً من جهة الجدل، أي كثيراً جدله‏.‏ ويدل لهذا المعنى ما ثبت في «الصحيح» عن علي‏:‏ ‏"‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم طرقه وفاطمةَ ليلاً فقال‏:‏ ألاَ تصليان‏؟‏ فقال علي‏:‏ يا رسول الله إنما أنفسنا بيد الله إن شاء أن يبعثنا بعثَنا، قال‏:‏ فانصرف رسول الله حين قلت له ذلك ولم يرجع إليّ شيئاً، ثم سمعته يَضرب فخذه ويقول‏:‏ ‏{‏وكان الإنسان أكثر شيء جدلاً‏}‏ ‏"‏ يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الأولى بعلي أن يحمد إيقاظ رسول الله إياه ليقوم من الليل وأن يحرص على تكرر ذلك وأن يُسَرّ بما في كلام رسول الله من مَلام، ولا يستدل بما يحبذ استمرار نومه، فذلك محل تعجب رسول الله صلى الله عليه وسلم من جواب علي رضي الله عنه‏.‏

ولا يحسن أن يحمل التفضيل في الآية على بابه بأن يرد أن الإنسان أكثر جدلاً من الشياطين والجن مما يجوز على حقيقته الجدل لأنه محمل لا يراد مثله في مثل هذا‏.‏ ومن أنبأنا أن للشياطين والجن مقدرة على الجدل‏؟‏‏.‏

والجدل‏:‏ المنازعة بمعاوضة القول، أي هو الكلام الذي يحاول به إبطال ما في كلام المخاطب من رأي أو عزم عليه‏:‏ بالحجة أو بالإقناع أو بالباطل، قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 46‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله‏}‏ ‏[‏المجادلة‏:‏ 1‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏يجادلنا في قوم لوط‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 74‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 107‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏يجادلونك في الحق بعد ما تبين‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 6‏]‏‏.‏

والمراد هنا مطلق الجدل وبخاصة ما كان منه بباطل، أي أن كل إنسان في طبعه الحرص على إقناع المخالف بأحقية معتقده أو عمله‏.‏ وسياق الكلام يقتضي إرادة الجدل الباطل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏55‏]‏

‏{‏وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا ‏(‏55‏)‏‏}‏

عطف على جملة ‏{‏ولقد صرفنا في هذا القرآن‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 54‏]‏ الخ‏.‏ ومعناها متصل تمام الاتصال بمعنى الجملة التي قبلها بحيث لو عطفت عليها بفاء التفريع لكان ذلك مقتضى الظاهر وتعتبر جملة ‏{‏وكان الإنسان أكثر شيء جدلاً‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 54‏]‏ معترضة بينهما لولا أن في جعل هذه الجملة مستقلة بالعطف اهتماماً بمضمونها في ذاته، بحيث يعدّ تفريعه على مضمون التي قبلها يحيد به عن الموقع الجدير هُو به في نفوس السامعين إذ أريد أن يكون حقيقة مقررة في النفوس‏.‏ ولهذه الخصوصية فيما أرى عُدل في هذه الجملة عن الإضمار إلى الإظهار بقوله‏:‏ وما منع الناس‏}‏ وبقوله‏:‏ ‏{‏إذ جاءهم الهدى‏}‏ دون أن يقول‏:‏ وما منعهم أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى قصداً لاستقلال الجملة بذاتها غير مستعانة بغيرها، فتكون فائدة مستقلة تسْتأهل توجه العقول إلى وعيها لذاتها لا لأنها فرع على غيرها‏.‏

على أن عموم ‏{‏الناس‏}‏ هنا أشمل من عموم لفظ ‏{‏الناس‏}‏ في قوله‏:‏ ‏{‏ولقد صرفنا في هذا القرآن للناس‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 54‏]‏ فإن ذلك يعم الناس الذين يسمعون القرآن في أزمان ما بعد نزول تلك الآية، وهذا يعم الناس كلهم الذين امتنعوا من الإيمان بالله‏.‏

وكذلك عموم لفظ الهدى‏}‏ يشمل هدى القرآن وما قبله من الكتب الإلهية وأقوال الأنبياء كلها، فكانت هذه الجملة قياساً تمثيلياً بشواهد التاريخ وأحوال تلقي الأمم دعوات رسلهم‏.‏

فالمعنى‏:‏ ما منع هؤلاء المشركين من الإيمان بالقرآن شيء يَمنع مثلُه، ولكنهم كالأمم الذين قبلهم الذين جاءهم الهدى بأنواعه من كتب وآيات وإرشاد إلى الخير‏.‏

والمرد ب ‏{‏الأولين‏}‏ السابقون من الأمم في الضلال والعناد‏.‏ ويجوز أن يراد بهم الآباء، أي سنة آبائهم، أي طريقتهم ودينهم، ولكل أمة أمةٌ سبقتها‏.‏

و ‏{‏أن تأتيهم‏}‏ استثناء مفرغ هو فاعل ‏{‏وما منع‏}‏‏.‏ «ولن يؤمنوا» منصوب على نزع الخافض، أي من أن يؤمنوا‏.‏

ومعنى ‏{‏تأتيهم سنة الأولين‏}‏ تحل فيهم وتعتريهم، أي تُلقى في نفوسهم وتسول إليهم‏.‏ والمعنى‏:‏ أنهم يُشبهون خلق من كانوا قبلهم من أهل الضلال ويقلدونهم، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏أتواصوا به بل هم قوم طاغون‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 53‏]‏‏.‏

وسنة الأولين‏:‏ طريقتهم في الكفر‏.‏ وإضافة ‏(‏سنة‏)‏ إليهم تشبه إضافة المصدر إلى فاعله، أي السنة التي سَنّها الأولون‏.‏ وإسناد مَنْعهم من الإيمان إلى إتيان سنة الأولين استعارة‏.‏

والمعنى‏:‏ ما منع الناس أن يؤمنوا إلا الذي منع الأولين قبلهم من عادة العناد والطغيان وطريقتهم في تكذيب الرسل والاستخفاف بهم‏.‏

وذكر الاستغفار هنا بعد ذكر الإيمان تلقين إياهم بأن يبادروا بالإقلاع عن الكفر وأن يتوبوا إلى الله من تكذيب النبي ومكابرته‏.‏

و ‏(‏أو‏)‏ هي التي بمعنى ‏(‏إلى‏)‏، وانتصاب فعل يأتيهم العذاب‏}‏ ‏(‏بأن‏)‏ مضمرة بعد ‏(‏أو‏)‏‏.‏ و‏(‏أو‏)‏ متصلة المعنى بفعل ‏{‏منع‏}‏، أي منعهم تقليدُ سنة الأولين من الإيمان إلى أن يأتيهم العذاب كما أتى الأولين‏.‏

هذا ما بدا لي في تفسير هذه الآية وأراه أليق بموقع هاته الآية من التي قبلها‏.‏

فأما جميع المفسرين فقد تأولوا الآية على خلاف هذا على كلمة واحدة فجعلوا المراد بالناس عينَ المراد بهم في قوله‏:‏ ‏{‏ولقد صرفنا في هذا القرآن للناس من كل مثل‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 54‏]‏، أي ما منع المشركين من الإيمان بالله ورسوله‏.‏ وجعلوا المراد بالهدى عين المراد بالقرآن، وحملوا سنة الأولين على معنى سنة الله في الأولين، أي الأمم المكذبين الماضين، أي فإضافة ‏{‏سنة‏}‏ إلى ‏{‏الأولين‏}‏ مِثل إضافة المصدر إلى مفعوله، وهي عادة الله فيهم، أي يعذبهم عذاب الاستيصال‏.‏

وجعلوا إسناد المنع من الإيمان إلى إتيان سنة الأولين، بتقدير مضاف، أي انتظار أن تأتيهم سنة الله في الأولين، أي ويكون الكلام تهكماً وتعريضاً بالتهديد بحلول العذاب بالمشركين، أي لا يؤمنون إلا عند نزول عذاب الاستيصال، أي على معنى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فهل ينتظرون إلا مثل أيام الذين خلوا من قبلهم قل فانتظروا‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 102‏]‏‏.‏

وجعلوا قوله‏:‏ أو يأتيهم العذاب قبلاً‏}‏ قسيماً لقوله‏:‏ ‏{‏إلا أن تأتيهم سنة الأولين‏}‏، فحرف ‏(‏أو‏)‏ للتقسيم، وفعل ‏{‏يأتيهم‏}‏ منصوب بالعطف على فعل ‏{‏أن تأتيهم سنة الأولين‏}‏ بالاستيصال المفاجئ أو يأتيهم العذاب مواجهاً لهم‏.‏ وجعلوا ‏{‏قِبلاً‏}‏ حالاً من ‏{‏العذاب‏}‏، أي مقابلاً‏.‏ قال الكلبي‏:‏ وهو عذاب السيف يوم بدر‏.‏ ولعله يريد أنه عذاب مقابلةٍ وجهاً لوجه، أي عذاب الجلاد بالسيوف‏.‏ ومعناه‏:‏ أن المُشركين منهم من ذاق عذاب السيف في غزوات المسلمين، ومنهم من مات فهو يرى عذاب الآخرة‏.‏ وعلى هذا التفسير الذي سلكوه ينسلخ من الآية معنى التذييل، وتُقصر على معنى التهديد‏.‏

والإتيان‏:‏ مجاز في الحصول في المستقبل، لوجود ‏(‏أن‏)‏ المصدرية التي تخلص المضارع للاستقبال، وهو استقبال نسبي فلكل أمة استقبال سنة من قبلها‏.‏

والسنة‏:‏ العادة المألوفة في حال من الأحوال‏.‏

وإسناد منعهم الإيمان إلى إتيان سنة الأولين أو إتيان العذاب إسناد مجاز عقلي‏.‏ والمراد‏:‏ ما منعهم إلا سبب إتيان سنة الأولين لهم أو إتيان العذاب‏.‏ وسبب ذلك هو التكبر والمكابرة والتمسك بالضلال، أي أنه لا يوجد مانع يمنعهم الإيمان يخولهم المعذرة به ولكنهم جروا على سنن من قبلهم من الضلال‏.‏ وهذا كناية عن انتفاء إيمانهم إلى أن يحل بهم أحد العذابين‏.‏

وفي هذه الكناية تهديد وإنذار وتحذير وحث على المبادرة بالاستغفار من الكفر‏.‏ وهو في معنى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن الذين حقت عليهم كلمات ربك لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 96 97‏]‏‏.‏

وقِبَلاً‏}‏ حال من العذاب‏.‏ وهو بكسر القاف وفتح الباء في قراءة الجمهور بمعنى المقابل الظاهر‏.‏ وقرأ حمزة، وعاصم، والكسائي، وأبو جعفر، وخلف ‏{‏قبلاً‏}‏ بضمتين وهو جمع قبيل، أي يأتيهم العذاب أنواعاً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏56‏]‏

‏{‏وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آَيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُوًا ‏(‏56‏)‏‏}‏

بعْد أن أشار إلى جدالهم في هدى القرآن بما مهد له من قوله‏:‏ ‏{‏وكان الإنسان أكثر شيء جدلاً‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 54‏]‏‏.‏ وأشار إلى أن الجدال فيه مجرد مكابرة وعناد، وأنه لا يحف بالقرآن ما يمنع من الإيمان به كما لم يحف بالهدى الذي أرسل إلى الأمم ما يمنعهم الإيمان به، أعقب ذلك بأن وظيفة الرسل التبليغ بالبشارة والنذارة لا التصدي للجادلة، لأنها مجادلة لم يقصد منها الاسترشاد بل الغاية منها إبطال الحق‏.‏

والاستثناء من أحوال عامة محذوفة، أي ما نرسل المرسلين في حال إلا في حال كونهم مبشرين ومنذرين‏.‏ والمراد بالمرسلين جميع الرسل‏.‏

وجملة ويجادل الذين كفروا بالباطل‏}‏ عطف على جملة ‏{‏وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين‏}‏‏.‏ وكلتا الجملتين مرتبط بجملتي ‏{‏ولقد صرفنا في هذا القرآن للناس من كل مثل وكان الإنسان أكثر شيء جدلاً‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 54‏]‏‏.‏ وترتيب هذه الجمل في الذكر جار على ترتيب معانيها في النفس بحيث يشعر بأن كل واحدة منها ناشئ معناها على معنى التي قبلها، فكانت جملة ‏{‏ويجادل الذين كفروا بالباطل‏}‏ مفيدة معنى الاستدراك، أي أرسلنا الرسل مبشرين ومنذرين بما فيه مقنع لطالب الهدى، ولكن الذين كفروا جادلوه بالباطل لإزالة الحق لا لقصد آخر‏.‏ واختيار فعل المضارعة للدلالة على تكرر المجادلة، أو لاستحضار صورة المجادلة‏.‏

والمجادلة تقدمت في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يجادلنا في قوم لوط‏}‏ في سورة هود ‏(‏74‏)‏‏.‏

والإدحاض‏:‏ الإزلاق، يقال‏:‏ دَحَضَتْ القدم، إذا زَلّت، وهو مجاز في الإزالة، لأن الرجل إذا زلقت زَالت عن موضع تخطيها، قال تعالى‏:‏ ‏{‏فساهم فكان من المدحضين‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 141‏]‏‏.‏

وجملة واتخذوا آياتي‏}‏ عطف على جملة ‏{‏ويجادل‏}‏ فإنهم ما قصدوا من المجادلة الاهتداء، ولكن أرادوا إدحاض الحق واتخاذ الآيات كلها وبخاصة آيات الإنذار هزؤا‏.‏

والهُزُو‏:‏ مصدر هَزَا، أي اتخذوا ذلك مستهزأً به‏.‏ والاستهزاء بالآيات هو الاستهزاء عند سماعها، كما يفعلون عند سماع آيات الإخبار بالبعث وعند سماع آيات الوعيد والإنذار بالعذاب‏.‏

وعطفُ ‏{‏وما أنذروا‏}‏ على «الآيات» عطف خاص على عام لأنه أبلغ في الدلالة على توغل كفرهم وحماقة عقولهم‏.‏

‏{‏وما أنذروا‏}‏ مصدرية، أي وإنذارهم والإخبار بالمصدر للمبالغة‏.‏

وقرأ الجمهور ‏{‏هزءاً‏}‏ بضم الزاي‏.‏ وقرأه حمزة ‏{‏هُزْءاً‏}‏ بسكون الزاي‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏57‏]‏

‏{‏وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآَيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آَذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا ‏(‏57‏)‏‏}‏

لما بين حالهم من مجادلة الرسل لسوء نية، ومن استهزائهم بالإنذار، وعَرّض بحماقتهم أتبع ذلك بأنه أشد الظلم‏.‏ ذلك لأنه ظلم المرء نفسه وهو أعجب الظلم، فالذين ذُكِروا ما هم في غفلة عنه تذكيراً بواسطة آيات الله فأعرضوا عن التأمل فيها مع أنها تنذرهم بسوء العاقبة‏.‏ وشأن العاقل إذا سمع مثل ذلك أن يتأهب للتأمل وأخذ الحذر، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لقريش «إذا أخبرتكم أن العدو مصبحكم غداً أكنتم مُصدِّقي‏؟‏ فقالوا‏:‏ ما جربنا عليك كذباً» فقال‏:‏ «فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد»‏.‏

و ‏(‏مَنْ‏)‏ المجرورةُ موصولة‏.‏ وهي غير خاصة بشخص معين بقرينة قوله‏:‏ ‏{‏إنا جعلنا على قلوبهم أكنة‏}‏‏.‏ والمراد بها المشركون من العرب الذين ذكروا بالقرآن فأعرضوا عنه‏.‏

وعطف إعراضهم عن الذكر على التذكير بفاء التعقيب إشارة إلى أنهم سارعوا بالإعراض ولم يتركوا لأنفسهم مهلة النظر والتأمل‏.‏

ومعنى نِسيان ما قدمتْ يداه أنه لم يَعرض حاله وأعماله على النظر والفكر ليعلم‏:‏ أهي صالحة لا تخشى عواقبها أم هي سيئة من شأنها أن لا يسلم مقترفها من مؤاخذة، والصلاحُ بَيّنٌ والفساد بينٌ، ولذلك سمي الأول معروفاً والثاني منكَراً، ولا سيما بعد أن جاءتهم الذكرى على لسان الرسول صلى الله عليه وسلم فهم بمجموع الحالَين أشد الناس ظلماً، ولو تفكروا قليلاً لعلموا أنهم غير مفلَتين من لقاء جزاء أعمالهم‏.‏

ف ‏(‏مَن‏)‏ استفهام مستعمل في الإنكار، أي لا أحد أظلم من هؤلاء المتحدث عنهم‏.‏

والنسيان‏:‏ مستعمل في التغاضي عن العمل‏.‏ وحقيقة النسيان تقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ما ننسخ من آية أو ننسها‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏106‏)‏‏.‏

ومعنى ما قدمت يداه‏}‏ ما أسلفه من الأعمال‏.‏ وأكثر ما يستعمل مثل هذا التركيب في القرآن في العمل السيء، فصار جارياً مَجرى المثل، قال تعالى‏:‏ ‏{‏ذلك بما قدمت يداك وأن الله ليس بظلام للعبيد‏}‏، وقال‏:‏ ‏{‏وما أصابكم من مصيبة فبما قدمت أيديكم‏}‏‏.‏

والآية مصوغة بصيغة العموم، والمقصود الأول‏:‏ منها مشركو أهل مكة‏.‏

وجملة ‏{‏إنا جعلنا على قلوبهم أكنة‏}‏ مستأنفة بيانية نشأت على جملة ‏{‏ونسي ما قدمت يداه‏}‏، أي إن لم تعلم سبب نسيانه ما قدمت يداه فأعلم أنا جعلنا على قلوبهم أكنة‏.‏ وهو يفيد معنى التعليل بالمآل، وليس موقع الجملة موقع الجملة التعليلية‏.‏

والقلوب مرادُ بها‏:‏ مَدارك العلم‏.‏

والأكنة‏:‏ جمع كِنان، وهو الغِطاء، لأنه يُكن الشيء، أي يَحجبه‏.‏

و ‏{‏أن يفقهوه‏}‏ مجرور بحرف محذوف، أي مِنْ أن يفقهوه، لتضمين ‏{‏أكنة‏}‏ معنى الحائل أو المانع‏.‏

والوقر‏:‏ ثقل السمع المانع من وصول الصوت إلى الصماخ‏.‏

والضمير المفرد في ‏{‏يفقهوه‏}‏ عائد إلى القرآن المفهوم من المقام والمعبر عنه بالآيات‏.‏

وجملة ‏{‏وإن تدعهم إلى الهدى‏}‏ عطف على جملة ‏{‏إنا جعلنا على قلوبهم‏}‏، وهي متفرعة عليها، ولكنها لم تعطف بالفاء لأن المقصود جعل ذلك في الإخبار المستقل‏.‏

وأكد نفي اهتدائهم بحرف توكيد النفي وهو ‏(‏لن‏)‏، وبلفظ ‏(‏أبدا‏)‏ المؤكد لمعنى ‏(‏لن‏)‏، وبحرف الجزاء المفيد تسبب الجواب على الشرط‏.‏

وإنما حصل معنى الجزاء باعتبار تفرع جملة الشرط على جملة الاستئناف البياني، أي ذلك مسبب على فطر قلوبهم على عدم قبول الحق‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏58‏]‏

‏{‏وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا ‏(‏58‏)‏‏}‏

جرى القرآن على عادته في تعقيب الترهيب بالترغيب والعكسسِ، فلما رماهم بقوارع التهديد والوعيد عطف على ذلك التعريضَ بالتذكير بالمغفرة لعلهم يتفكرون في مرضاته، ثم التذكير بأنه يشمل الخلق برحمته في حين الوعيد فيؤخر ما توعدهم به إلى حد معلوم إمهالاً للناس لعلهم يرجعون عن ضلالهم ويتدبرون فيما هم فيه من نعم الله تعالى فلعلهم يشكرون، موجهاً الخطاب إلى النبي صلى الله عليه وسلم مفتتحاً باستحضار الجلالة بعنوان الربوبية للنبيء صلى الله عليه وسلم إيماءً إلى أن مضمون الخبر تكريم له، كقوله‏:‏ ‏{‏وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 33‏]‏‏.‏

والوجه في نظم الآية أن يكون الغفور‏}‏ نعتاً للمبتدأ ويكون ‏{‏ذو الرحمة‏}‏ هو الخبر لأنه المناسب للمقام ولما بعده من جملة ‏{‏لو يؤاخذهم‏}‏، فيكون ذكر ‏{‏الغفور‏}‏ إدماجاً في خلال المقصود‏.‏ فخُص بالذكر من أسماء الله تعالى اسم ‏{‏الغفور‏}‏ تعريضاً بالترغيب في الاستغفار‏.‏

والغفور‏:‏ اسم يتضمن مبالغة الغفران لأنه تعالى واسع المغفرة إذ يغفر لمن لا يُحصَون ويغفر ذنوباً لا تُحصى إن جاءه عبده تائباً مقلعاً منكسراً، على أن إمهاله الكفارَ والعصاةَ هو أيضاً من أثر المغفرة إذ هو مغفرة مؤقتة‏.‏

وأما قوله‏:‏ ‏{‏ذو الرحمة‏}‏ فهو المقصود تمهيداً لجملة ‏{‏لو يؤاخذهم بما كسبوا‏}‏، فلذلك كانت تلك الجملة بياناً لجملة ‏{‏وربك الغفور ذو الرحمة‏}‏ باعتبار الغفور الخبر وهو الوصف الثاني‏.‏

والمعنى‏:‏ أنهم فيما كسبوه من الشرك والعناد أحرياء بتعجيل العقوبة لكن الله يمهلهم إلى أمد معلوم مقدر‏.‏ وفي ذلك التأجيل رحمة بالناس بتمكين بعضهم من مهلة التدارك وإعادة النظر، وفيه استبْقاؤهم على حالهم زمناً‏.‏

فوصف ‏{‏ذو الرحمة‏}‏ يساوي وصف ‏(‏الرحيم‏)‏ لأن ‏(‏ذو‏)‏ تقتضي رسوخ النسبة بين موصوفها وما تضاف إليه‏.‏

وإنما عدل عن وصف ‏(‏الرحيم‏)‏ إلى ‏{‏ذو الرحمة‏}‏ للتنبيه على أنه خبر لا نعت تنبيهاً بطريقة تغيير الأسلوب، فإن اسم ‏(‏الرحيم‏)‏ صار شبيهاً بالأسماء الجامدة، لأنه صيغ بصيغة الصفة المشبهة فبعُد عن ملاحظة الاشتقاق فيه واقترب من صنف الصفة الذاتية‏.‏

و ‏(‏بل‏)‏ للإضراب الإبطالي عن مضمون جواب ‏(‏لو‏)‏، أي لم يعجل لهم العذاب إذْ لهم موعد للعذاب متأخرٌ، وهذا تهديد بما يحصل لهم يوم بدر‏.‏

والموْئل‏:‏ مَفْعل من وَأَلَ بمعنى لَجَأ، فهو اسم مكان بمعنى الملْجأ‏.‏

وأكد النفي ب ‏(‏لن‏)‏ رداً على إنكارهم، إذ هم يحسبون أنهم مفلتون من العذاب حين يرون أنه تأخر مدةً طويلة، أي لأن لا ملجأ لهم من العذاب دون وقت وَعده أو مكان وَعده، فهو مَلجؤهم‏.‏ وهذا من تأكيد الشيء بما يشبه ضده، أي هم غير مُفلَتِين منه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏59‏]‏

‏{‏وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا ‏(‏59‏)‏‏}‏

بعد أن أزيل غرُورهم بتأخر العذاب، وأبطل ظنهم الإفلات منه ببيان أن ذلك إمهال من أثر رحمة الله بخلقه، ضرب لهم المثل في ذلك بحال أهل القرى السالفين الذين أُخر عنهم العذاب مدة ثم لم ينجوا منه بأخَرة، فالجملة معطوفة على جملة ‏{‏بل لهم موعد‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 58‏]‏‏.‏

والإشارة ب تلك إلى مقدر في الذهن، وكاف الخطاب المتصلة باسم الإشارة لا يراد به مخاطب ولكنها من تمام اسم الإشارة، وتجري على ما يناسب حال المخاطب بالإشارة من واحد أو أكثر، والعرب يعرفون ديار عاد وثمود ومدين ويسمعون بقوم لوط وقوم فرعون فكانت كالحاضرة حين الإشارة‏.‏

والظلم‏:‏ الشرك وتكذيب الرسل‏.‏ والمُهلك بضم الميم وفتح اللام مصدر ميمي من أهلك، أي جعلنا لإهلاكنا إياهم وقتاً معيناً في علمنا إذا جاء حلَّ بهم الهلاك‏.‏ هذه قراءة الجمهور‏.‏ وقرأه حفص عن عاصم بفتح الميم وكسر اللام على أنه اسم زمان على وزن مَفعل‏.‏ وقرأه أبو بكر عن عاصم بفتح الميم وفتح اللام على أنه مصدر ميمي لِهَلَك‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏60‏]‏

‏{‏وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا ‏(‏60‏)‏‏}‏

لما جرى ذكر قصة خلق آدم وأمر الله الملائكة بالسجود له، وما عرض للشيطان من الكبر والاعتزاز بعنصره جهلاً بأسباب الفضائل ومكابرةً في الاعتراف بها وحسداً في الشرف والفضل، فَضرب بذلك مثلاً لأهل الضلال عبيد الهوى والكبر والحسد، أعقبَ تلك القصة بقصة هي مَثل في ضدها لأن تطلب ذي الفضل والكمال للازدياد منهما وسعيه للظفر بمن يبلغه الزيادة من الكمال، اعترافاً للفاضل بفضيلته‏.‏ وفي ذلك إبداء المقابلة بين الخُلُقين وإقامة الحجة على المماثلة والمخالفة بين الفريقين المؤمنين والكافرين، وفي خلال ذلك تعليم وتنويه بشأن العلم والهدى، وتربية للمتقين‏.‏

ولأن هذه السورة نزلت بسبب ما سأل المشركون والذين أمْلَوا عليهم من أهل الكتاب عن قصتين قصة أصحاب الكهف وقصة ذي القرنين‏.‏ وقد تقضى الجواب عن القصة الأولى وما ذيلت به، وآن أن ينتقل إلى الجواب عن القصة الثانية فتختم بذلك هذه السورة التي أنزلت لبيان القصتين‏.‏ قدمت لهذه القصة الثانية قصة لها شبه بها في أنها تَطواف في الأرض لطلب نفع صالح، وهي قصة سفر موسى عليه السلام لطلب لقاء من هو على علم لا يعلمه موسى‏.‏ وفي سوق هذه القصة تعريض بأهل الكتاب بأن الأولى لهم أن يدُلوا الناس على أخبار أنبياء إسرائيل وعلى سفر لأجل تحصيل العلم والحكمة لا سفر لأجل بسط الملك والسلطان‏.‏

فجملة ‏{‏وإذ قال موسى‏}‏ معطوفة على جملة ‏{‏وإذ قلنا للملائكة‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 50‏]‏ عطف القصة على القصة‏.‏ والتقدير‏:‏ واذكر إذ قال موسى لفتاه، أي اذكر ذلك الزمن وما جرى فيه‏.‏ وناسبها تقدير فعل اذكر لأن في هذه القصة موعظة وذكرى كما في قصة خلق آدم‏.‏

فانتصب ‏(‏إذ‏)‏ على المفعولية به‏.‏

والفتى‏:‏ الذكَر الشاب، والأنثى فتاة، وهو مستعمل مجازاً في التابع والخادم‏.‏ وتقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏تراود فتاها‏}‏ في سورة ‏[‏يوسف‏:‏ 30‏]‏‏.‏

وفتى موسى‏:‏ خادمه وتابعه، فإضافة الفتى إلى ضمير موسى على معنى الاختصاص، كما يقال‏:‏ غُلامه‏.‏ وفتى موسى هو يوشع بن نون من سبط أفرايم‏.‏ وقد قيل‏:‏ إنه ابن أخت موسى، كان اسمه الأصلي هُوشع فدعاه موسى حين بعثه للتجسس في أرض كنعان يوشع‏.‏ ولعل ذلك التغير في الاسم تلطف به، كما قال رسول الله لأبي هريرة يا أبا هِرّ‏.‏ وفي التوراة‏:‏ أن إبراهيم كان اسمه أبرام فلما أمره الله بخصال الفطرة دعاه إبراهَام‏.‏

ولعل هذه التغييرات في العبرانية تفيد معاني غير معاني الأسماء الأولى فتكون كما دعا النبي زيْد الخَيل زيدَ الخير‏.‏

ويوشع أحد الرجال الإثني عشر الذين بعثهم موسى عليه السلام ليتجسسوا في أرض كنعان في جهات حلب وحبرون ويختبروا بأس أهلها وخيرات أرضها ومكثوا أربعين يوماً في التجسس‏.‏

وهو أحد الرجلين اللذين شجعا بني إسرائيل على دخول أرض كنعان اللذين ذكرهما القرآن في آية ‏{‏قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 23‏]‏‏.‏

كان ميلاد يوشع في حدود سنة 1463 قبل المسيح ووفاته في حدود سنة 1353 وعمَّر مائة وعشر سنين، وكان موسى عليه السلام قد قربه إلى نفسه واتخذه تلميذاً وخادماً، ومثل ذلك الاتخاذ يوصف صاحبه بمثِل فتى أو غلام‏.‏ ومنه وصفهم الإمام محمد بن عبد الواحد المطرز النحْوي اللغوي غلامَ ثعلب، لشدة اتصاله بالإمام أحمد بن يحيى الشيباني الملقب بثعلب‏.‏

وكان يوشع أحد الرجلين اللذين عهد إليهما موسى عليه السلام بأن يقسما الأرض بين أسباط بني إسرائيل بعد موسى عليه السلام‏.‏ وأمر الله موسى بأن يعهد إلى يوشع بتدبير أمر الأمة الإسرائيلية بعد وفاة موسى عليه السلام فعهد إليه موسى بذلك فصار نبيئاً من يومئذٍ‏.‏ ودبر أمر الأمة بعد موسى سبعاً وعشرين سنة‏.‏ وكتاب يوشع هو أول كتب الأنبياء بعد موسى عليه السلام‏.‏

وابتدئت القصة بحكاية كلام موسى عليه السلام المقتضي تصميماً على أن لا يزول عما هو فيه، أي لا يشتغل بشيء آخر حتى يبلغ مجمع البحرين، ابتداء عجيباً في باب الإيجاز، فإن قوله ذلك يدل على أنه كان في عَمل نهايته البلوغ إلى مكان، فعلم أن ذلك العلم هو سَيْرُ سَفر‏.‏

ويدل على أن فتاهُ استعظم هذه الرحلة وخشي أن تنالهما فيها مشقة تعوقهما عن إتمامها، أو هو بحيث يستعظمها للعلم بأنها رحلة بعيدة، وذلك شأن أسباب الأمور المهمة، ويدل على أن المكان الذي يسير إليه مكان يجد عنده مطلبه‏.‏

وأبرح‏}‏ مضارع بَرِح بكسر الراء، بمعنى زال يزول‏.‏ وتقدم في سورة يوسف عليه السلام‏.‏ واستعير ‏{‏لا أبرح‏}‏ لِمعنى‏:‏ لا أترك، أو لا أكف عن السير حتى أبلغ مجمع البحرين‏.‏ ويجوز أن يكون مضارع بَرح الذي هو فعل ناقص لا يستعمل ناقصاً إلا مع النفي ويكون الخبر محذوفاً بقرينة الكلام، أي لا أبرح سائراً‏.‏ وعن الرضيّ أن حذف خبرها قليل‏.‏

وحُذف ذكر الغرض الذي سار لأجله موسى عليه السلام لأنه سيُذكر بعدُ، وهو حذف إيجاز وتشويق، له موقع عظيم في حكاية القصة، لإخراجها عن مطروق القصص إلى أسلوب بديع الحِكم والأمثال قضاء لِحق بلاغة الإعجاز‏.‏

وتفصيل هذه القصة وارد في «صحيح البخاري» من حديث‏:‏ «عمرو بن دينار ويعلى بن مسلم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس عن أُبَيّ بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم أن موسى عليه السلام قام خطيباً في بني إسرائيل فسُئل‏:‏ أي الناس أعلم‏؟‏ فقال‏:‏ أنا‏.‏ فعتَب الله عليه إذ لمْ يَردّ العلمَ إليه‏.‏ فأوحى الله إليه‏:‏ بلى عبدُنا خَضِرٌ هو أعلم منك‏.‏

قال‏:‏ فأين هو‏؟‏ قال‏:‏ بمجمع البحرين‏.‏ قال موسى عليه السلام‏:‏ يا رب اجعل لي علَماً أعلم ذلك به‏.‏ قال‏:‏ تَأخذ معك حُوتاً في مِكَتل فحيث ما فقدت الحوت فهو ثَمّ، فأخذ حوتاً فجعله في مِكتل وقال لفتاه يوشع بن نون‏:‏ لا أكلفك إلا أن تخبرني بحيث يفارقك الحوت، قال ‏(‏أي فتاه‏)‏‏:‏ ما كلّفتَ كثيراً‏.‏ ثم انطلق وانطلق بفتاه حتى إذا أتيا الصخرة وضعَا رؤوسهما فنامَا واضطرب الحوت في المِكتل فخرج منه فسقط في البحر فاتخذ سبيله في البحر سَربَا وموسى نائم، فقال فتاه ‏(‏وكان لم ينم‏)‏‏:‏ لا أوقظه وأمسك اللّهُ عن الحوت جَرية الماء فصار الماء عليه مثلَ الطاق، فلما استيقظ ‏(‏موسى‏)‏ نسي صاحبُه أن يخبره بالحوت، فانطلقا بقية يومهما وليلتهما حتى إذا كان من الغد قال موسى عليه السلام لفتاه‏:‏ آتنا غداءنَا لقد لَقينا من سفرنا هذا نصبَاً‏.‏ قال‏:‏ ولم يجد موسى النصَب حتى جاوزَ المكان الذي أمره الله به ‏(‏أي لأن الله ميسر أسباب الامتثال لأوليائه‏:‏ فقال له فتاه‏:‏ أرأيتَ إذ أَوَيْنا إلى الصخرة فإني نسيِتُ الحوت وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره وأتخذ سبيله في البحر عجباً‏.‏ قال‏:‏ فكان للحوت سرباً ولموسى ولفتاه عجباً‏.‏ فقال موسى‏:‏ ذلك ما كنا نبغي، فارتدا على آثارهما قصصاً، قال‏:‏ رجعا يَقُصّان آثارهما حتى انتهيا إلى الصخرة، فإذا رجل مسجى ثوباً فسَلّم عليه موسى‏.‏ فقال الخَضر‏:‏ وأنى بأرضك السلام‏.‏‏.‏‏.‏ الحديث‏.‏

قوله‏:‏ «وأنى بأرضك السلام» استفهام تعجب، والكاف خطاب للذي سلم عليه فكانَ الخضر يظن ذلك المكان لا يوجد به قوم تحيتهم السلام، إما لكون ذلك المكان كان خلاء وإما لكونه مأهولاً بأمة ليست تحيتهم السلام‏.‏

وإنما أمسك الله عن الحوت جَرية الماء ليكون آية مشهودة لموسى عليه السلام وفتاه زيادة في أسباب قوة يقينهما، ولأن المكان لما كان ظرفاً لظهور معجزات عِلم النبوءة ناسب أن يحف به ما هو خارق للعادة إكراماً لنزلاء ذلك المكان‏.‏

ومجمع البحرين لا ينبغي أن يختلف في أنه مكان من أرض فلسطين‏.‏ والأظهر أنه مصب نهر الأردن في بحيرة طبرية فإنه النهر العظيم الذي يمر بجانب الأرض التي نزل بها موسى عليه السلام وقومه‏.‏ وكانت تسمى عند الإسرائيليين بحر الجليل، فإن موسى عليه السلام بلغ إليه بعد مسير يوم وليلة راجلاً فعلمنا أنه لم يكن مكاناً بعيداً جداً‏.‏ وأراد موسى أن يبلغ ذلك المكان لأن الله أوحى إليه أن يجد فيه العبد الذي هو أعلم منه فجعله ميقاتاً له‏.‏

ومعنى كون هذا العبد أعلم من موسى عليه السلام أنه يعلم علوماً من معاملة الناس لم يعلّمها الله لموسى‏.‏

فالتفاوت في العلم في هذا المقام تفاوت بفنون العلوم، وهو تفاوت نسبي‏.‏

والخضر‏:‏ اسم رجل صالح‏.‏ قيل‏:‏ هو نبيء من أحفاد عابر بن شالخ بن أرفخشد بن سام‏.‏ فهو الخضر بن ملكان بن فالغ بن عابر، فيكون ابن عم الجد الثاني لإبراهيم عليه السلام‏.‏ وقيل‏:‏ الخضر لقبه‏.‏ وأما اسمه فهو ‏(‏بليا‏)‏ بموحِدة أو إيليا بهمزة وتحتية‏.‏

واتفق الناس على أنه كان من المعمرين، ثم اختلفوا في أنه لم يزل حياً اختلافاً لم يبن على أدلة مقبولة متعارفة ولكنه مستند إلى أقوال بعض الصوفية، وهي لا ينبغي اعتمادها لكثرة ما يقع في كلامهم من الرموز والخلط بين الحياتين الروحية والمادية، والمشاهدات الحسية والكشفية، وقد جعلوه رمز العلوم الباطنية كما سيأتي‏.‏

وزعم بعض العلماء أن الخضر هو جرجس‏:‏ وقيل‏:‏ هو من ذرية عيسو بن إسحاق‏.‏ وقيل‏:‏ هو نبيء بعث بعد شعيب‏.‏

وجرجس المعني هو المعروف باسم مَار جرجس‏.‏ والعرب يسمونه‏:‏ مارَ سَرجس كما في «كتاب سيبويه»‏.‏ وهو من أهل فلسطين ولد في الرملة في النصف الآخر من القرن الثالث بعد مولد عيسى عليه السلام وتوفي سنة 303 وهو من الشهداء‏.‏ وهذا ينافي كونه في زمن موسى عليه السلام‏.‏

والخضر لقب له، أي الموصوف بالخضرة، وهي رمز البركة، قيل‏:‏ لقب خضراً لأنه كان إذا جلس على الأرض اخضرَّ ما حوله، أي اخضرَّ بالنبات من أثر بركته‏.‏ وفي «دائرة المعارف الإسلامية» ذكرت تخرصات تُلصق قصة الخضر بقصص بعضها فارسية وبعضها رومانية وما رَائدهُ في ذلك إلا مجرد التشابه في بعض أحوال القصص، وذلك التشابه لا تخلو عنه الأساطير والقصص فلا ينبغي إطلاق الأوهام وراء أمثالها‏.‏

والمحقق أنّ قصة الخضر وموسى يهودية الأصل ولكنّها غير مسطورة في كتب اليهود المعبر عنها بالتوراة أو العهد القديم‏.‏ ولعل عدم ذكرها في تلك الكتب هو الذي أقدم نَوفاً البِكالي على أن قال‏:‏ إن موسى المذكور في هذه الآيات هو غير موسى بني إسرائيل كما ذكر ذلك في «صحيح البخاري» وأن ابن عباس كذب نَوفاً، وسَاق الحديث المتقدم‏.‏

وقد كان سبب ذكرها في القرآن سؤال نفر من اليهود أو من لقنهم اليهودُ إلقاء السؤال فيها على الرسول صلى الله عليه وسلم وقد أشار إلى ذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما أوتيتم من العلم إلا قليلا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 85‏]‏‏.‏

واختلف اليهود في أن صاحب الخضر هو موسى بن عمران الرسول وأن فتاه هو يوشع بن نون، فقيل‏:‏ نعم، وقد تأيد ذلك بما رواه أبي بن كعب عن النبي وقيل‏:‏ هو رجل آخر اسمه موسى بن ميشا ‏(‏أو مِنسه‏)‏ ابن يوسف بن يعقوب‏.‏ وقد زعم بعض علماء الإسلام أن الخضر لقي النبي وعُدّ من صحابته‏.‏ وذلك توهم وتتبع لخيال القصاصين‏.‏

وسمي الخضر بليا بن ملكان أو إيليا أو إلياس، فقيل‏:‏ إن الخضر هو إلياس المذكور في سورة يس‏.‏

ولا يصح أن يكون الخضر من بني إسرائيل إذ لا يجوز أن يكون مكلفاً بشريعة موسى ويقره موسى على أفعال لا تبيحها شريعته‏.‏ بل يتعين أن يكون نبيئاً موحى إليه بوحي خاص، وعَلِم موسى أنه من أمة غير مبعوث موسى إليها‏.‏ ولما علم موسى ذلك مما أوحى الله إليه من قوله‏:‏ بلَى عبدنا خضر هو أعلم منك‏.‏ كما في حديث أبَي بن كعب، لم يَصرفه عنه ما رأى من أعماله التي تخالف شريعة التوراة لأنه كان على شريعة أخرى أمةً وحده‏.‏ وأما وجوده في أرض بني إسرائيل فهو من السياحة في العبادة، أو أمره الله بأن يحضر في المكان الذي قدره للقاء موسى رفقاً بموسى عليه السلام‏.‏

ومعنى أو أمضي‏}‏ أو أسير‏.‏ والمضي‏:‏ الذهاب والسير‏.‏

والحُقُب بضمتين اسم للزمان الطويل غير منحصر المقدار، وجمعه أحقاب‏.‏

وعطف ‏{‏أمضي‏}‏ على ‏{‏أبلغ‏}‏ ب ‏(‏أو‏)‏ فصار المعطوف إحدى غايتين للإقلاع عن السير، أي إما أن أبلغ المكان أو أمضي زمناً طويلاً‏.‏ ولما كان موسى لا يخامره الشك في وجود مكان هو مجمع للبحرين وإلفاء طلبته عنده، لأنه علم ذلك بوحي من الله تعالى، تعين أن يكون المقصود بحرف الترديد تأكيد مضيه زمناً يتحقق فيه الوصول إلى مجمع البحرين‏.‏ فالمعنى‏:‏ لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين بسير قريب أو أسير أزماناً طويلة فإني بالغ مجمع البحرين لا محالة، وكأنه أراد بهذا تأييس فتاه من محاولة رجوعهما، كما دل عليه قوله بعد ‏{‏لقد لَقِينا من سفرنا هذا نصباً‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 62‏]‏‏.‏

أو أراد شحْذ عزيمة فتاه ليساويه في صحة العزم حتى يكونا على عزم متحد‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏61- 63‏]‏

‏{‏فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا ‏(‏61‏)‏ فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آَتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا ‏(‏62‏)‏ قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا ‏(‏63‏)‏‏}‏

الفاء للتفريع والفصيحة لأنها تفصح عن كلام مقدر، أي فسارا حتى بلغا مجمع البحرين‏.‏ وضمير ‏{‏بينهما‏}‏ عائد إلى البحرين، أي محلا يجمع بين البحرين‏.‏ وأضيف ‏(‏مجمع‏)‏ إلى ‏(‏بين‏)‏ على سبيل التوسع، فإن ‏(‏بين‏)‏ اسم لمكان متوسط شيئين، وشأنه في اللغة أن يكون ظرفاً للفعل، ولكنه قد يستعمل لمجرد مكان متوسط إما بالإضافةِ كما هنا، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 106‏]‏، وهو بمنزلة إضافة المصدر أو اسم الفاعل إلى معمولة؛ أو بدون إضافة توسعاً كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لقد تقطع بينكم‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 94‏]‏ في قراءة من قرأ برفع بينكم‏.‏

والحوت هو الذي أمر الله موسى باستصحابه معه ليكون له علامة على المكان الذي فيه الخضر كما تقدم في سياق الحديث‏.‏ والنسيان تقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أو ننسها‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏106‏)‏‏.‏

ومعنى نسيانهما أنهما نسيا أن يراقبا حاله أباققٍ هو في مِكتله حينئذٍ حتى إذا فقداه في مقامهما ذلك تحققا أن ذلك الموضع الذي فقداه فيه هو الموضع المؤقت لهما بتلك العلامة فلا يزيدا تعباً في المشي، فإسناد النسيان إليهما حقيقة، لأن يوشع وإن كان هو الموكل بحفظ الحوت فكان عليه مراقبته إلا أن موسى هو القاصد لهذا العمل فكان يهمه تعهده ومراقبته‏.‏ وهذا يدل على أن صاحب العمل أو الحاجة إذا وَكَله إلى غيره لا ينبغي له ترك تعهده‏.‏ ثم إن موسى عليه السلام نام وبقي فتاه يقظان فاضطرب الحوت وجعل لنفسه طريقاً في البحر‏.‏

والسرَب‏:‏ النفق‏.‏ والاتخاذ‏:‏ الجعل‏.‏ وقد انتصب سرباً‏}‏ على الحال من ‏{‏سبيله‏}‏ مراداً بالحال التشبيه، كقول امرئ القيس‏:‏

إذا قامتا تضوّع المسك منهما *** نسيمَ الصبا جاءت بِريّا القرَنفل

وقد مر تفسير كيف اتخذ البحر سرباً في الحديث السابق عن أبَيّ بن كعب‏.‏

وحذف مفعول ‏{‏جاوزا‏}‏ للعلم، أي جاوزا مجمع البحرين‏.‏

والغداء‏:‏ طعام النهار مشتق من كلمة الغدوة لأنه يُؤكل في وقت الغَدوة، وضده العشاء، وهو طعام العشي‏.‏ والنصب‏:‏ التعب‏.‏

والصخرة‏:‏ صخرة معهودة لهما، إذ كانا قد أويا إليها في سيرهما فجلسا عليها، وكانت في مجمع البحرين‏.‏ قيل‏:‏ إن موضعها دون نهر يقال له‏:‏ نهر الزيت، لكثرة ما عنده من شجر الزيتون‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏نسيت الحوت‏}‏ أي نسيت حفظه وافتقاده، أي فانفلت في البحر‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره‏}‏‏.‏ هذا نسيان آخر غير النسيان الأول، فهذا نسيان ذكر الإخبار عنه‏.‏

وقرأ حفص عن عاصم ‏{‏وما أنسانيه‏}‏ بضم هاء الضمير على أصل الضمير وهي لغة‏.‏ والكسر أشهر لأن حركة الكسرة بعد الياء أخف‏.‏

و ‏{‏أن أذكره‏}‏ بدل اشتمال من ضمير ‏{‏أنسانيه‏}‏ لا من الحوت، والمعنى‏:‏ ما أنساني أن أذكره لك إلا الشيطان‏.‏ فالذكر هنا ذكر اللسان‏.‏

ووجه حصره إسناد هذا الإنساء إلى الشيطان أن ما حصل له من نسيان أن يخبر موسى بتلك الحادثة نسيان ليس من شأنه أن يقع في زمن قريب مع شدة الاهتمام بالأمر المنسي وشدة عنايته بإخبار نبيئه به‏.‏ ومع كون المنسي أعجوبة شأنها أن لا تنسى يتعين أن الشيطان ألهاه بأشياء عن أن يتذكر ذلك الحادث العجيب وعلم يوشع أن الشيطان يَسوءه التقاء هذين العبدين الصالحين، وما له من الأثر في بث العلوم الصالحة فهو يصرف عنها ولو بتأخير وقوعها طمعاً في حدوث العوائق‏.‏

وجملة ‏{‏واتخذ سبيله في البحر‏}‏ عطف على جملة ‏{‏فإني نسيت الحوت‏}‏ وهي بقية كلام فتى موسى، أي وأنه اتخذ سبيله في البحر، أي سبح في البحر بعد أن كان ميتاً زمناً طويلاً‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏عجباً‏}‏ جملة مستأنفة، وهي من حكاية قول الفتى، أي أعجبُ له عجباً، فانتصب على المفعول المطلق الآتي بدلاً من فعله‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏64- 70‏]‏

‏{‏قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آَثَارِهِمَا قَصَصًا ‏(‏64‏)‏ فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آَتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا ‏(‏65‏)‏ قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا ‏(‏66‏)‏ قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا ‏(‏67‏)‏ وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا ‏(‏68‏)‏ قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا ‏(‏69‏)‏ قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا ‏(‏70‏)‏‏}‏

‏{‏قال ذلك‏}‏ الخ‏.‏‏.‏ جواب عن كلامه، ولذلك فصلت كما بيناه غير مرة‏.‏

والإشارة ب ‏{‏ذلك‏}‏ إلى ما تضمنه خبر الفتى من فقْد الحوت‏.‏ ومعنى كونه المبتغى أنه وسيلة المبتغى‏.‏ وإنما المبتغى هو لقاء العبد الصالح في المكان الذي يفقد فيه الحوت‏.‏

وكتب ‏{‏نبغ‏}‏ في المصحف بدون ياء في آخره، فقيل‏:‏ أراد الكاتبون مراعاة حالة الوقف، لأن الأحسن في الوقف على ياء المنقوص أن يوقف بحذفها‏.‏ وقيل‏:‏ أرادوا التنبيه على أنها رويت محذوفة في هذه الآية‏.‏ والعرب يميلون إلى التخفيف‏.‏ فقرأ نافع، وأبو عمرو، والكسائي، وأبو جعفر بحذف الياء في الوقف وإثباتها في الوصل، وقرأ عاصم، وحمزة، وابن عامر بحذف الياء في الوصل والوقف‏.‏ وقرأ ابن كثير، ويعقوب بإثباتها في الحالين، والنون نون المتكلم المشارك، أي ما أبغيه أنا وأنت، وكلاهما يبغي ملاقاة العبد الصالح‏.‏

والارتداد‏:‏ مطاوع الرد كأن راداً رَدّهما‏.‏ وإنما ردتهما إرادتهما، أي رجعا على آثار سيرهما، أي رجعا على طريقهما الذي أتيا منه‏.‏

والقصص‏:‏ مصدر قص الأثر، إذا توخى متابعته كيلا يخطئا الطريق الأول‏.‏

والمراد بالعبد‏:‏ الخضر، ووصف بأنه من عباد الله تشريفاً له، كما تقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏سبحان الذي أسرى بعبده‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 1‏]‏‏.‏

وعدل عن الإضافة إلى التنكير والصفة لأنه لم يسبق ما يقتضي تعريفه، وللإشارة إلى أن هذا الحال الغريب العظيم الذي ذكر من قصته ما هو إلا من أحوال عباد كثيرين لله تعالى‏.‏ وما منهم إلا له مقام معلوم‏.‏

وإيتاء الرحمة يجوز أن يكون معناه‏:‏ أنه جُعل مرحوماً، وذلك بأن رفق الله به في أحواله‏.‏ ويجوز أن يكون جعلناه سبب رحمة بأن صرفه تصرفاً يجلب الرحمة العامة‏.‏ والعلم من لدن الله‏:‏ هو الإعلام بطريق الوحي‏.‏

و ‏(‏عند‏)‏ و‏(‏لدن‏)‏ كلاهما حقيقته اسمُ مكان قريب‏.‏ ويستعملان مجازاً في اختصاص المضاف إليه بموصوفهما‏.‏

و ‏(‏من‏)‏ ابتدائية، أي آتيناه رحمةً صدرت من مكان القُرب، أي الشرف وهو قرب تشريف بالانتساب إلى الله، وعلماً صدر منه أيضاً‏.‏ وذلك أن ما أوتيه من الولاية أو النبوءة رحمة عزيزة، أو ما أوتيه من العلم عزيز، فكأنهما مما يدخر عند الله في مكان القرب التشريفي من الله فلا يُعطى إلا للمصطفيَن‏.‏

والمخالفة بين من عندنا‏}‏ وبين ‏{‏من لدنا‏}‏ للتفنن تفادياً من إعادة الكلمة‏.‏ وجملة ‏{‏قال له موسى‏}‏ ابتداء محاورة، فهو استئناف ابتدائي، ولذلك لم يقع التعبير ب ‏(‏قال‏)‏ مجردة عن العاطف‏.‏

والاستفهام في قوله‏:‏ ‏{‏هل أتبعك‏}‏ مستعمل في العَرْض بقرينة أنه استفهام عن عمل نَفس المستفهم‏.‏ والاتباع‏:‏ مجاز في المصاحبة كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن يتبعون إلا الظن‏}‏ ‏[‏النّجم‏:‏ 28‏]‏‏.‏

و ‏(‏على‏)‏ مستعملة في معنى الاشتراط لأنه استعلاء مجازي‏.‏

جعل الاتباع كأنه مستعمل فوق التعليم لشدة المقارنة بينهما‏.‏ فصيغة‏:‏ أَفْعَلُ كذا على كذا، من صيغ الالتزام والتعاقد‏.‏

ويؤخذ من الآية جواز التعاقد على تعليم القرآن والعلم، كما في حديث تزويج المرأة التي عرضت نفسها على النبي فلم يقبلها، فزوجها مَن رغب فيها على أن يعلمها ما معه من القرآن‏.‏

وفيه أنه التزام يجب الوفاء به‏.‏ وقد تفرع عن حكم لزوم الالتزام أن العرف فيه يقوم مقام الاشتراط فيجب على المنتصب للتعليم أن يعامل المتعلمين بما جرى عليه عرف أقاليمهم‏.‏

وذكر عياض في باب صفة مجلس مالك للعلم من كتاب المدارك‏:‏ أن رجلاً خراسانياً جاء من خراسان إلى المدينة للسماع من مالك فوجد الناس يعرِضون عليه وهو يسمع ولا يسمعون قراءة منه عليهم، فسأله أن يَقرأ عليهم فأبى مالك، فاستعدى الخراساني قاضيَ المدينة‏.‏ وقال‏:‏ جئت من خراسان ونحن لا نرى العرض وأبى مالك أن يقرأ علينا‏.‏ فحكم القاضي على مالك‏:‏ أن يقرأ له، فقيل لمالك‏:‏ أأصاب القاضي الحق‏؟‏ قال‏:‏ نعم‏.‏

وفيه أيضاً إشارة إلى أن حق المعلم على المتعلم اتباعه والاقتداء به‏.‏

وانتصب رشداً‏}‏ على المفعولية ل ‏{‏تعلمن‏}‏ أي ما به الرشد، أي الخير‏.‏

وهذا العلم الذي سأل موسى تعلمه هو من العلم النافع الذي لا يتعلق بالتشريع للأمة الإسرائيلية، فإن موسى مستغن في علم التشريع عن الازدياد إلا من وحي الله إليه مباشرة، لأنه لذلك أرسله وما عدا ذلك لا تقتضي الرسالة علمه‏.‏ وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في قصة الذين وجدهم يؤبّرون النخل «أنتم أعلم بأمور دنياكم»‏.‏ ورجع يوم بدر إلى قول المنذر بن الحارث في أن المنزل الذي نزله جيشُ المسلمين ببدر أولَ مرة ليس الأليقَ بالحرب‏.‏

وإنما رام موسى أن يَعلم شيئاً من العِلم الذي خص الله به الخضر لأن الازدياد من العلوم النافعة هو من الخير‏.‏ وقد قال الله تعالى تعليماً لنبيه ‏{‏وقل رب زدني علماً‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 114‏]‏‏.‏ وهذا العلم الذي أوتيه الخضر هو علم سياسة خاصة غيرِ عامة تتعلق بمعينين لِجلب مصلحة أو دفع مفسدة بحسب ما تهيئه الحوادث والأكوان لا بحسب ما يناسب المصلحة العامة‏.‏ فلعل الله يسره لنفع معينين من عنده كما جعل محمداً رحمة عامة لكافة الناس، ومن هنا فارق سياسةَ التشريع العامة‏.‏ ونظيره معرفة النبي أحوال بعض المشركين والمنافقين، وتحققه أن أولئك المشركين لا يؤمنون وهو مع ذلك يدعوهم دوماً إلى الإيمان، وتحققه أن أولئك المنافقين غيرُ مؤمنين وهو يعاملهم معاملة المؤمنين، وكان حذيفة بن اليمان يعرفهم بأعيانهم بإخبار النبي إياه بهم‏.‏

وقرأ الجمهور رشداً‏}‏ بضم الراء وسكون الشين‏.‏ وقرأه أبو عمرو، ويعقوب بفتح الراء وفتح الشين مثل اللفظين السابقين، وهما لغتان كما تقدم‏.‏

وأكد جملة ‏{‏إنك لن تستطيع معي صبراً‏}‏ بحرف ‏(‏إن‏)‏ وبحرف ‏(‏لَن‏)‏ تحقيقاً لمضمونها من توقع ضيق ذرع موسى عن قبول ما يبديه إليه، لأنه علم أنه تصدر منه أفعال ظاهرها المنكر وباطنها المعروف‏.‏ ولما كان موسى عليه السلام من الأنبياء الذين أقامهم الله لإجرء الأحكام على الظاهر علم أنه سينكر ما يشاهده من تصرفاته لاختلاف المشربين لأن الأنبياء لا يقرون المنكر‏.‏

وهذا تحذير منه لموسى وتنبيه على ما يستقبله منه حتى يُقدم على متابعته إن شاء على بصيرة وعلى غير اغترار، وليس المقصود منه الإخبار‏.‏ فمناط التأكيدات في جملة ‏{‏إنك لن تستطيع معي صبراً‏}‏ إنما هو تحقيق خطورة أعماله وغرابتها في المتعارف بحيث لا تتحمل، ولو كان خبراً على أصله لم يقبل فيه المراجعة ولم يجبه موسى بقوله‏:‏ ‏{‏ستجدني إن شاء الله صابراً‏}‏‏.‏

وفي هذا أصل من أصول التعليم أن ينبِه المعلمُ المتعلمَ بعوارض موضوعات العلوم الملقنة لا سيما إذا كانت في معالجتها مشقة‏.‏

وزادها تأكيداً عموم الصبر المنفي لوقوعه نكرةً في سياق النفي، وأن المنفي استطاعته الصبر المفيد أنه لو تجشم أن يصبر لم يستطع ذلك، فأفاد هذا التركيبُ نفي حصول الصبر منه في المستقبل على آكد وجه‏.‏

وزيادة ‏{‏معي‏}‏ إيماء إلى أنه يجد من أعماله ما لا يجد مثله مع غيره فانتفاء الصبر على أعماله أجدر‏.‏

وجملة ‏{‏وكيف تصبر على ما لم تحط به خبراً‏}‏ في موضع الحال من اسم ‏(‏إن‏)‏ أو من ضمير ‏{‏تستطيع‏}‏، فالواو واو الحال وليست واو العطف لأن شأن هذه الجملة أن لا تعطف على التي قبلها لأن بينهما كمال الاتصال إذ الثانية كالعلة للأولى‏.‏ وإنما أوثر مجيئها في صورة الجملة الحالية، دون أن تفصل عن الجملة الأولى فتقع علة مع أن التعليل هو المراد، للتنبيه على أن مضمونها علة ملازمة لِمضمون التي قبلها إذ هي حال من المسند إليه في الجملة قبلها‏.‏

و ‏(‏كيف‏)‏ للاستفام الإنكاري في معنى النفي، أي وأنت لا تصبر على ما لم تحط به خُبراً‏.‏

والخُبر بضم الخاء وسكون الباء‏:‏ العِلم‏.‏ وهو منصوب على أنه تمييز لنسبة الإحاطة في قوله‏:‏ ‏{‏ما لم تحط به‏}‏، أي إحاطة من حيث العلم‏.‏

والإحاطةُ‏:‏ مجاز في التمكن، تشبيهاً لقوة تمكن الاتصاف بتمكن الجسم المحيط بما أحاط به‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏ستجدني إن شاء الله صابراً‏}‏ أبلغ في ثبوت الصبر من نحو‏:‏ سأصبر، لأنه يدل على حصول صبر ظاهر لرفيقه ومتبوعه‏.‏ وظاهر أن متعلق الصبر هنا هو الصبر على ما من شأنه أن يثير الجزع أو الضجر من تعب في المتابعة، ومن مشاهدة ما لا يتحمله إدراكه، ومن ترقب بيان الأسباب والعلل والمقاصد‏.‏

ولما كان هذا الصبر الكامل يقتضي طاعة الآمِر فيما يأمره به عطف عليه ما يفيد الطاعة إبلاغاً في الاتسام بأكمل أحوال طالب العلم‏.‏

فجملة ‏{‏ولا أعصي لك أمراً‏}‏ معطوفة على جملة ‏{‏ستجدني‏}‏، أو هو من عطف الفعل على الاسم المشتق عطفاً على ‏{‏صابراً‏}‏ فيؤوَّل بمصدر، أي وغير عاص‏.‏ وفي هذا دليل على أن أهم ما يتسم به طالب العلم هو الصبر والطاعة للمعلم‏.‏

وفي تأكيده ذلك بالتعليق على مشيئة الله استعانةً به وحرصاً على تقدم التيْسير تأدباً مع الله إيذانٌ بأن الصبر والطاعة من المتعلم الذي له شيء من العلم أعسر من صبر وطاعة المتعلم الساذج، لأن خلو ذهنه من العلم لا يحرجه من مشاهدة الغرائب، إذ ليس في ذهنه من المعارف ما يعارض قبولها، فالمتعلم الذي له نصيب من العلم وجاء طالباً الكمال في علومه إذا بدا له من علوم أستاذه ما يخالف ما تقرر في علمه يبادر إلى الاعتراض والمنازعة‏.‏ وذلك قد يثير النفرة بينه وبين أستاذ، فلتجنب ذلك خشي الخضر أن يلقَى من موسى هذه المعاملة فقال له‏:‏ ‏{‏إنك لن تستطيع معي صبراً وكيف تصبر على ما لم تحط به خبراً‏}‏، فأكد له موسى أنه يصبر ويطيع أمره إذا أمره‏.‏ والتزام موسى ذلك مبني على ثقته بعصمة متبوعه لأن الله أخبره بأنه آتاه علماً‏.‏

والتاء في قوله‏:‏ ‏{‏فإن اتبعتني‏}‏ تفريع على وعد موسى إياه بأنه يجده صابراً، ففرع على ذلك نهيه عن السؤال عن شيء مما يشاهده من تصرفاته حتى يبينه له من تلقاء نفسه‏.‏

وأكد النهي بحرف التوكيد تحقيقاً لحصول أكمل أحوال المتعلم مع المعلم، لأن السؤال قد يصادف وقت اشتغال المسؤول بإكمال عمله فتضيق له نفسه، فربما كان الجواب عنه بدون شَرَهِ نفس، وربما خالطه بعض القلق فيكون الجواب غير شاففٍ، فأراد الخضر أن يتولى هو بيان أعماله في الإبان الذي يراه مناسباً ليكون البيان أبسط والإقبال أبهج فيزيد الاتصال بين القرينين‏.‏

والذكر، هنا‏:‏ ذكر اللسان‏.‏ وتقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏40‏)‏‏.‏ أعني بيان العلل والتوجيهات وكشف الغوامض‏.‏

وإحداث الذكر‏:‏ إنشاؤه وإبرازه، كقول ذي الرمة‏:‏

أحْدَتْنا لخالقهَا شُكراً ***

وقرأ نافع فَلَا تَسْأَلَنِّي‏}‏ بالهمز وبفتح اللام وتشديد النون على أنه مضارع سأل المهموز مقترناً بنون التوكيد الخفيفة المدغمة في نون الوقاية وبإثبات ياء المتكلم‏.‏

وقرأ ابن عامر مثله، لكن بحذف ياء المتكلم‏.‏ وقرأ البقية ‏{‏تسألني‏}‏ بالهمز وسكون اللام وتخفيف النون‏.‏ وأثبتوا ياء المتكلم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏71‏]‏

‏{‏فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا ‏(‏71‏)‏‏}‏

أي فعقِب تلك المحاورة أنهما انطلقا‏.‏ والانطلاق‏:‏ الذهاب والمشي، مشتق من الإطلاق وهو ضد التقييد، لأن الدابة إذا حُلّ عقالها مشت‏.‏ فأصله مطاوع أطلقه‏.‏

و ‏(‏حتى‏)‏ غاية للانطلاق‏.‏ أي إلى أن ركبا في السفينة‏.‏

و ‏(‏حتى‏)‏ ابتدائية، وفي الكلام إيجاز دل عليه قوله‏:‏ ‏{‏إذا ركبا في السفينة‏}‏‏.‏ أصل الكلام‏:‏ حتى استأجرا سفينة فركباها فلما ركبا في السفينة خرقها‏.‏

وتعريف ‏{‏السفينة‏}‏ تعريف العهد الذهني، مثل التعريف في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأخاف أن يأكله الذئب‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 13‏]‏‏.‏

وإذا‏}‏ ظرف للزمان الماضي هنا، وليست متضمنة معنى الشرط‏.‏ وهذا التوقيت يؤذن بأخذه في خرق السفينة حين ركوبهما‏.‏ وفي ذلك ما يشير إلى أن الركوب فيها كان لأجل خرقها لأن الشيء المقصود يبادِر به قاصده لأنه يكون قد دبره وارتآه من قبل‏.‏

وبني نظم الكلام على تقديم الظرف على عامله للدلالة على أن الخرق وقع بمجرد الركوب في السفينة، لأن في تقديم الظرف اهتماماً به، فيدل على أن وقت الركوب مقصود لإيقاع الفعل فيه‏.‏

وضمن الركوب معنى الدخول لأنه ركوب مجازي، فلذلك عدي بحرف ‏(‏في‏)‏ الظرفية نظير قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقال اركبوا فيها‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 41‏]‏ دون نحو قوله‏:‏ ‏{‏والخيل والبغال والحمير لتركبوها‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 8‏]‏‏.‏ وقد تقدم ذلك في سورة هود‏.‏

والخرق‏:‏ الثقب والشق، وهو ضد الالتئام‏.‏

والاستفهام في أخرقتها‏}‏ للإنكار‏.‏ ومحل الإنكار هو العلة بقوله‏:‏ ‏{‏لتغرق أهلها‏}‏، لأن العلة ملازمة للفعل المستفهم عنه‏.‏ 6 ولذلك توجه أن يغير موسى عليه السلام هذا المنكَر في ظاهر الأمر، وتأكيد إنكاره بقوله‏:‏ ‏{‏لقد جئت شيئاً إمراً‏}‏‏.‏

والإمر بكسر الهمزة‏:‏ هو العظيم المفظع‏.‏ يقال‏:‏ أَمِر كفرح إِمراً، إذا كثر في نوعه‏.‏ ولذلك فسره الراغب بالمنكر، لأن المقام دال على شيء ضارّ‏.‏ ومقام الأنبياء في تغيير المنكر مقام شدة وصراحة‏.‏ ولم يجعله نكراً كما في الآية بعدها لأن العلم الذي عمله الخضر ذريعة للغرق ولم يقع الغرق بالفعل‏.‏

وقرأ الجمهور ‏{‏لتغرق‏}‏ بمثناة فوقية مضمومة على الخطاب‏.‏ وقرأه حمزة، والكسائي، وخلف ‏{‏ليَغرق‏}‏ بتحتية مفتوحة ورفع ‏{‏أهلها‏}‏ على إسناد فعل الغرق للأهل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏72‏]‏

‏{‏قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا ‏(‏72‏)‏‏}‏

استفهام تقرير وتعريض باللوم على عدم الوفاء بما التزم، أي أَتُقِرّ أني قلتُ إنك لا تستطيع معي صبراً‏.‏

و ‏{‏معي‏}‏ ظرف متعلق ب ‏{‏تستطيع‏}‏، فاستطاعة الصبر المنفية هي التي تكون في صحبته لأنه يرى أموراً عجيبة لا يدرك تأويلها‏.‏

وحُذف متعلق القول تنزيلاً له منزلة اللازم، أي ألم يقع مني قول فيه خطابك بعدم الاستطاعة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏73‏]‏

‏{‏قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا ‏(‏73‏)‏‏}‏

اعتذر موسى بالنسيان وكان قد نسي التزامه بما غشي ذهنه من مشاهدة ما ينكره‏.‏

والنهي مستعمل في التعطف والتماس عدم المؤاخذة، لأنه قد يؤاخذه على النسيان مؤاخذةَ من لا يَصلح للمصاحبة لما ينشأ عن النسيان من خطر‏.‏ فالحَزامة الاحتراز من صحبة من يطرأ عليه النسيان، ولذلك بني كلام موسى على طلب عدم المؤاخذة بالنسيان ولم يبن على الاعتذار بالنسيان، كأنه رأى نفسه محقوقاً بالمؤاخذة، فكان كلاماً بديع النسيج في الاعتذار‏.‏

والمؤاخذة‏:‏ مفاعلة من الأخذ، وهي هنا للمبالغة لأنها من جانب واحد كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 61‏]‏‏.‏

و ‏(‏ما‏)‏ مصدرية، أي لا تؤاخذني بنسياني‏.‏

والإرهاق‏:‏ تعدية رهق، إذا غشِي ولحق، أي لا تُغشِّني عسراً‏.‏ وهو هنا مجاز في المعاملة بالشدة‏.‏

والإرهاق‏:‏ مستعار للمعاملة والمقابلة‏.‏

والعسر‏:‏ الشدة وضد اليسر‏.‏ والمراد هنا‏:‏ عسر المعاملة، أي عدم التسامح معه فيما فعله فهو يسأله الإغضاء والصفح‏.‏

والأمر‏:‏ الشأن‏.‏

و ‏(‏مِن‏)‏ يجوز أن تكون ابتدائية، فكون المراد بأمره نسيانه، أي لا تجعل نسياني منشئاً لإرهاقي عُسراً‏.‏ ويجوز أن تكون بيانية فيكون المراد بأمره شأنه معه، أي لا تجعل شأني إرهاقك إياي عسراً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏74‏]‏

‏{‏فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا ‏(‏74‏)‏‏}‏

يدل تفريع قوله‏:‏ ‏{‏فانطلقا حتى إذا لقيا غلاماً‏}‏ عن اعتذار موسى، على أن الخضر قبل عذره وانطلقا مصطحبين‏.‏

والقول في نظم قوله‏:‏ ‏{‏حتى إذا لقيا غلاماً‏}‏ كالقول في قوله‏:‏ ‏{‏حتى إذا ركبا في السفينة‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 71‏]‏‏.‏

وقوله‏:‏ فقتله‏}‏ تعقيب لفعل ‏{‏لقيا‏}‏ تأكيداً للمبادرة المفهومة من تقديم الظرف، فكانت المبادرة بقتل الغلام عند لقائه أسرع من المبادرة بخرق السفينة حين ركوبها‏.‏

وكلام موسى في إنكار ذلك جرى على نسق كلامه في إنكار خرق السفينة سوى أنه وصف هذا الفعل بأنه نكُر، وهو بضمتين‏:‏ الذي تنكره العقول وتستقبحه، فهو أشد من الشيء الإمْر، لأن هذا فساد حاصل والآخر ذريعة فساد كما تقدم‏.‏ ووصف النفس بالزاكية لأنها نفس غلام لم يبلغ الحلم فلم يقترف ذنباً فكان زكياً طَاهراً‏.‏ والزكاء‏:‏ الزيادة في الخير‏.‏

وقرأ نافع، وابن كثير، وأبو عمرو، وأبو جعفر، ورويس عن يعقوب ‏{‏زَاكية‏}‏ بألف بعد الزاي اسم فاعل من زكا‏.‏ وقرأ الباقون ‏{‏زكية‏}‏، وهما بمعنى واحد‏.‏

قال ابن عطية‏:‏ النون من قوله‏:‏ ‏{‏نكراً‏}‏ هي نصف القرآن، أي نصف حروفه‏.‏ وقد تقدم أن ذلك مخالف لقول الجمهور‏:‏ إن نصف القرآن هو حرف التاء من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وليتلطف‏}‏ في هذه السورة ‏(‏19‏)‏‏.‏